يقول المصنف: "فإن أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب، فلا يجوز أن يناظر من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن" فالمجادلة أو المناظرة لا تكون مع أهل القبلة إلا بالتي هي أحسن حتى وإن أخطئوا، ومن العجب ما نجده في مناقشة علماء السلف وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه ما من فرقة ولا طائفة إلا وتعرض لها، إما أفاض وأكثر في ذلك حتى يكتب المجلدات، أو عرضاً في مواضع من كتبه، فترى الأمانة في النقل، حتى إن أكبر أعداء المنهج السلفي مثل الدكتور علي سالم النشار في كتابه نشأة الفكر الفلسفي وهو يتكلم عن التهم التي اتهم بها شيخ الإسلام وأنه كان من الكرامية وأنه كان مجسماً وأنه كذا، تجده عندما يتكلم عن بعض النسخ أو بعض الكتب يقول: هذا ما ذكره ابن تيمية وهو أمين في نقله. فإذا وقعت على كتاب لـشيخ الإسلام ابن تيمية ينقل فيه عن كتاب آخر -وهذا كثير عنده سواء في نقل الأحاديث أو غيره، ولكن قد ينقل ويطيل من كتب أهل البدع أو من كتب أهل السنة أحياناً- فتجد أنك تستطيع أن تقابل ما كتبه شيخ الإسلام إذا كانت النسخة واضحة وجيدة على نسخ أخرى معتمدة من الكتب التي نقل منها، وكأنها نسخة أخرى؛ لما فيها من الدقة والأمانة في النقل، بينما إذا أردت -مثلاً- أن تنقل عن أبي حامد الغزالي في الإحياء وهو الكتاب المشهور جداً عند الناس، تجده عندما ينقل عن أبي طالب المكي في قوت القلوب وعن المحاسبي وعن أمثالهما، تجد الاختلاف، لكن شيخ الإسلام تجد الأمانة والدقة في النقل، ثم بعد أن ينقل القول إن كان فيه وجه صواب، فإنه يأتي به ويفصل في المسألة تفصيلاً وافياً، ومن أعجب الأدلة في ذلك رده على الرافضي صاحب كتاب منهاج الكرامة، فتجد شيخ الإسلام في منهاج السنة يأتي بكلام الرافضي وشبهته ثم إن كان فيه وجه حق ذكره وأثبته، فلا ينكر قولاً مطلقاً، فقد يذكر الرافضي أشياء ثابتة وصحيحة في فضائل علي رضي الله عنه، فتجد شيخ الإسلام يثبت ما ثبت عنده من فضائل علي رضي الله تعالى عنه، إلا أنه يقابلها بما ثبت من فضائل أبي بكر ويبين الدلالة منها على أفضليته على علي رضي الله عنهما وهكذا.
حتى إن الرافضي لما تعرض للكرامات قال: إن من فضائل علي رضي الله تعالى عنه أنه كان يخطب على منبر الكوفة وإذا بثعبان يأتي إلى المنبر ثم يكلمه ثم يفتيه وهذا من ملوك الجن، وكان علي يفتي الجن والإنس، قال: فهذا دليل على أنه أولى بالخلافة. وهنا يجيب شيخ الإسلام رحمة الله عليه ويقول: وهذا من غرائب استدلالات الرافضة، ومن الجهل بمقام علي رضي الله تعالى عنه، فمقام علي رضي الله عنه أعلى وأرفع من أن يستدل عليه بهذا، قال: فإن هذا يحصل لمن هو دون علي بكثير، فمن العلماء من يأتيهم الجن ويسألونهم فيجيبهم.
ولو رأيتم كيف أن ابن حزم رحمه الله شن هجوماً شديداً على الأشاعرة وكفر علماءهم: الأشعري والباقلاني وأبا جعفر السمناني ؛ فيأتي شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كان يرد على الأشاعرة كثيراً، وهم الذين آذوه وفعلوا به ما فعلوا، فيأتي فيقول: إن ابن حزم في أبواب الإيمان والقدر خير من المنتسبين إلى الأشعري، ولكنّ المنتسبين إلى الأشعري خير منه في باب الصفات، وهذا الواقع، فإن ابن حزم أنكر عليهم وكفرهم عندما قالوا: إن الإيمان هو مجرد ما في القلب من: التصديق والمعرفة؛ فقال ابن حزم : قال جهم وأبو الحسن الأشعري وفلان...) فـابن حزم وضعهم مع جهم دفعة واحدة على ما بينهم من فرق، ومع أن الفرق قد لا يؤثر كثيراً لكن لا ينبغي أن نجعلهم مع بعض.
أما في باب الصفات فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إن ابن حزم في باب الصفات أقرب إلى القرامطة وإلى المتفلسفة، وكذلك الأشاعرة خير من ابن حزم في باب تفضيل الصحابة لأن الأشاعرة في التفضيل مثل أهل السنة، فأفضل الصحابة عندهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وأما ابن حزم فأفضل الصحابة عنده هم أمهات المؤمنين؛ لأنهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
والمقصود من هذا ضرورة الإنصاف والعدل، وقد ذكر رحمه الله أن بعض أهل الأهواء لا يجدون من يعدل بينهم إلا أهل السنة والجماعة، حتى لو اختلف بعض أهل الأهواء مع بعضهم، فالذي يقدر على العدل بينهم أهل السنة، فهم أعدل الفرق مع الفرق، وهم أرحم الناس بالناس؛ لأنهم لا ينتقمون لأنفسهم، يجادلون ولكن بالتي هي أحسن، ويدفعون الشبهة بالحجة، ولكن من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومما صح عن السلف الصالح، فلا يتعصبون لرأي ولا لبشر.